هل حقًا تشكل المباني سلوك الإنسان؟

كتب (روبرت هارت) في مقاله ” كيف تُشكلنا المباني؟” ، ردًّا مُقنعًا على مقالي ” نحن نشكل المباني، فهل تشكلنا المباني كنتيجة؟“، أثناء حضوري لحديث روبرت في مؤتمر “المعهد الأمريكي للمهندسين المعماريين” في ولاية فيلادلفيا، والذي تحدث فيه عن (  علم الأعصاب، والتطور، والطبيعه : نظرة جديدة عن النزعة الإنسانية في الهندسة المعمارية ).  إهتمامي الشديد بنظرة روبرت للأمور دفعتني إلى شراء كتابه، والذي كان محور حديثه. لقد كانت قراءة عظيمة، وتأمليه، ومثيرة  ومحيرة إلى حد سواء. إن التفاؤل الذي تبنته تلك الرؤية جعلني قلقًا.

بعد ذلك المؤتمر بعام، كتبت تلك المقالة المتشائمة التي قام روبرت بالرد عليها، والتي كانت نوعًا من الحجة المُضادة لفرضيته القائلة بأن ربط علم الأحياء بالتصميم، قد ينتج عنه عالمًا أفضل.  على الرغم من أن تلك الرؤية قد تبدو بديهيًا قابلة للتصديق، فإنني تخيلت إحتمالات لا يمكن إغفالها ضد نجاحها في مواجهة التغير المُناخي، وكل تلك الأمراض التي صنعها الإنسان. لا تزال الهندسة المعمارية تلعب دورًا ضئيلًا في مأساة متتالية ذات بعد ملحمي.

إن كنت لا تزال متابعًا، فإن مقالي الآن هو رد على الرد الذي كتبه روبرت بخصوص مقالي.  و يجب أن أشكر روبرت على إستمرار ذلك الحديث. الذي يعتبر نقاشًا صحيًا وأتمنى أن ينضم إليه معماريون آخرون.

في إعتقادي، أنني وروبرت نمثل فلسفتين متختلفتين، واحدة تنظر إلى إستجابة الناس للعمارة من منظور علم الأعصاب، وهو ما يتبناه روبرت ، الإيمان بالحتمية المعمارية أو البيئية ، فكرة أن الأفعال البشرية ناتجة عن المحفزات الخارجية للبيئات المبنية أو المناخ هو أمر ضروري. الرؤية الأخرى تنظر للأمر من منظور العلم السلوكي، بأن البشر هم أصحاب التأثير الأكبر.
يظهر التطور في كلا الموقفبن، لكنني أهتم بما يفعله الناس أكثر من الدوافع لأفعالهم. كما أوضح روبرت في مقاله، فقد كتبت ، أن الطبيعه البشرية وليست الهندسة المعمارية ، هي السبب في إمراض الحياة على الأرض. وإن كان إعتقادي صحيحًا فإن العلاج هو تغيير السلوك الإنساني وليس تغيير العمارة. وموقفي أن قدرة المبنى على تغيير إعتقادات الناس و أفعالهم محدودة جدًا.
قوة العمارة بمفردها في شفاء الجراح الذاتية للفقر النظامي والجوع ، والأمراض التي يمكن الوقاية منها والموت (بما في ذلك الأوبئة) ، وكراهية الأجانب ، والتعصب ، والتحيز ، والاضطهاد ، والإرهاب ، والحرب ، والجريمة ، والانحلال الحضري ، والتلوث ، والاحتباس الحراري مخيبه للآمال. يحتاج الشخص فقط أن ينظر حوله ليرى ويقتنع. إذا كانت المباني الجيدة _ والتي يوجد الكثير منها _ تساهم في خلق سلوكيات إيجابيه، فلماذا يوجد عالم ملئ بالألم؟
إن ما يطرحه روبرت يصبح أقوى عند الضغط من أجل المزيد من الإنسانية في الهندسة المعمارية، وليس من أجل الدفاع عن علم الأعصاب. كانت المباني القديمة هي عامل التغيير الفعال الذي يسعى إليه المهندسون المعماريون الآن، والقصص هي السبب في ذلك، فمن الناحية التاريخية تم نسج المباني بإحكام في الأصل والسرد الثقافي. كان للأعمال القديمة معنى، تفتقده الأعمال في أيامنا الحالية.


يكتب روبرت من مُنطلق تعليمي في مقاله، و هو لديه القناعة فيما يقوله. إننا نتحصل على المعرفة بطريقيتن مختلفتين جوهريًا، تعليمات إرشادية ، والخبرة المباشرة.
الأولى تنقل المعلومات بطريقة غير مباشرة، ترتيب الحقائق و الأرقام التي يطلب من الشباب حفظها وتسميعها بعد ذلك، هذه المعرفة قصيرة المدى ما لم يتم إستخدامه على أساس منتظم فإننا نحتفظ به في الذاكرة العاملة لفترة كافية لإجتياز الإمتحان. أما التعلم عن طريق التجربة يتم إكتسابه مباشرة، على سبيل المثال، لمس موقد ساخن، بدلًا من إخبارك بعدم وضع يدك عليه لأنه أمر خطير ، يبقى الدرس إلى الأبد لأنه يتم تخزينه في جزء من الدماغ حيث تكمن الذكريات العاطفيه. من خلال تضمين التعليم في سياق التجارب المعمارية، يحدد روبرت حقيقة بديهية معروفة لعلماء النفس: المعرفة بحد ذاتها لا تغير السلوك ، ولكن التجربة يمكن أن تفعل.
عند زوال ( مجمعات برويت و إيجوي السكنية) ، وبعض المحاولات الغير مدروسة للإسكان الإجتماعي، كتب روبرت ” بعد أن قُمنا بالبناء بكل حماسة، وعشنا في واقع مشاريع الإسكان الفاشلة، وسط أميال من الطرق السريعة والمنحدرات على الواجهة البحرية، غيرنا رأينا ونظرتنا، وهدمنا تلك المجمعات بكل سعادة ” .. في الحقيقة فإن التجربة العملية هي أفضل معلم، حيث تتعدى قوة الإكتشاف الذاتي ما يمكن إكتشافه في قاعة المحاضرات.
بالتأكيد فإن العوامل البيئية تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيلنا، المدخلات التي يمكن تصميمها وإختبارها وبنائها. المعماريين يتلاعبون بالحجم والمقياس، والكتله، واللون، و الملمس. نتحكم في الرؤية، والإضائة و أنظمة التكييف. لكن التأثير الملموس والمحسوس لا يجب أن يتم المبالغة به. كما تتضمن بيئة المستخدم للمبنى عوامل إجتماعية ، كتأثير العائلة ، والأصدقاء، و زملاء العمل. عند هذه النقطة لا يصبح للهندسة المعمارية أي تحكم.

المكونات الحيوية التي تشكل السلوك الإنساني هي الأخرى بعيده عن السياق المعماري : كالجنس والعِرق، و الطباع، والنزعه الوراثية.كلها عوامل شخصية، تشبه تمامًا اللحظات المعرفية والعاطفية التي تشكل تجربة معمارية. تختلف من فرد إلى آخر. فإن ما يبدو مثيرًا وجذابًا لأحدهم، قد يبدو متسلطًا ومخيفًا للآخر. إن تقلبات الهوى في تلك الأصعده، غالبًا ما يتم تفويتها عند إتباع نهج علم الأعصاب الصارم، لتشكيل الحياة.

ملاحظة جانبية: إذا كان هذا يبدو مألوفًا ، فقد تكون عالمًا نفسيًا. أنا أصف بشكل أساسي نظرية ( التعلم الإجتماعي) لألبرت باندورا كما هي مطبقة على الهندسة المعمارية.
أنا أتفق مع ذلك، حيث كتب روبرت بأن الهندسة المعمارية لا يمكن أن تكون بدون سياق، حيث لا يقف المبنى “مجردًا بنفسه” ، وهو ما كان سيتفق معه باندورا أيضًا. كما إعتدنا في كل التجارب السابقه، فإننا ننظر إلى التجارب الجديدة من عدسة معتقداتنا الرئيسية، التي هي في الأساس نتاج دروس تعلمنها سابقًا. وهذا قد يحدث إشكالًا، وحاجزاً فيما تشكله المباني من أفكار الناس وأفعالهم. التحيز لتأكيد إعتقادنا ناتج من محاولة تفسير شيئًا جديدًا في سياق ما نؤمن به بالفعل. يميل البشر بشكل مؤسف إلى إيجاد دعم للمعتقدات القائمة ، حتى عند مواجهتهم بأدلة متناقضة. حينما يتعلق الأمر بجعلنا أفضل كبشر، فإن طبيعتنا البشرية ليست داعمة لنا بالضرورة.

“آمل ألا يثني تأثير [ريتشارد] المهندسين المعماريين الشباب عن التفكير في أنهم يستطيعون المساعدة في إحداث تغييرات في حياة الناس ، وهو اعتقاد ألهم المصممين وحفزهم لآلاف السنين.”


نقف أنا وروبرت على أرضيه مشتركة، فكلانا يشير للبحث عن حلول. روبرت يشير إلى التقدم في فهمنا للهندسة المعمارية العصبية (تأثير المباني على الجهاز العصبي المركزي) ، وأنا أشير إلى النتائج المنشورة للدراسات السلوكية ، بما في ذلك بحثي الخاص. كلانا نتفق أيضًا على الإستمرار في السعي.
يكتب روبرت ، “آمل ألا يثني تأثير [ريتشارد] المهندسين المعماريين الشباب عن التفكير في أنهم يستطيعون المساعدة في إحداث تغييرات في حياة الناس ، وهو اعتقاد ألهم المصممين وحفزهم لآلاف السنين.” وهو ما آمله أيضًا. قد تكون الهندسة المعمارية الصامته ليس لها تأثير، لكن المعماريون المتحدثون يمكنهم إحداث التغيير. لقد كتبت أنه على المصممين المحترفين أن يتعلموا رواية (الأكاذيب الجيدة) كالقصص، أن يكونوا أبطالًا، و يقسموا بالولاء، وأن يعلنوا عن مبادئهم، أن يصبحوا راديكاليين، و يخلقوا ثورة، كل ذلك في سبيل التغيير.
لطالما كانت الهندسة المعمارية قادرة على تسهيل بعض السلوكيات و منع أخرى. وهو ما لا يعتبر تشكيلًا للحياة بقدر ما هو إستعياب الإحتياجات البشرية و نقاط الضعف والإعتراف بها.
في السعي لإعادة تشكيل سلوكيات المستخدم ، ستحتاج المتغيرات الفسيولوجية والنفسية والإنسانية إلى اهتمامنا بالتصميم. يمكن لأي شخص تخمين المزيج المناسب . ولكن رأيي: قد نكون قادرين على تصميم أنفسنا للخروج من هذه الفوضى. ولكن إذا أردنا البقاء على قيد الحياة ، وإذا قمنا بإعادة تشكيل المجتمع في الوقت المناسب لمنع حدوث نهاية العالم التي تواجهنا ، فلن يكون ذلك عن طريق تحفيز المستقبلات العصبية الصغيرة في المقام الأول. سيكون ذلك لأننا غيرنا العقول على نطاق مجتمعي.