في العقود الأولى من القرن العشرين، أعتبر التصوير هو آخر صيحات الفنون الجميلة. الثورة الصناعية و ما تلاها من أثار الحرب العالمية الأولى بشّرت بما يسمى “الحداثة”. والذي ساهمت بشكل كامل في تطوير تكنولوجيا التصوير. ونتيجة لذلك غيرت تلك الصور ثنائية الأبعاد طريقة إحساس الناس بالعمارة. وأصبح ” التصميم من أجل التصوير” طريقة للترويج للمباني.
أصبح للكثير من المصورين ، أمثال “ بيرنيس أبوت ” و “إزرا ستولر” و “يولويس شولمان” وغيرهم، تأثير بالغ و موثَّق على الهندسة المعمارية. إنخرط هؤلاء ” الحداثيون ” الأوائل في التكنولوجيا المتاحة، وأخرجوا صورًا بالغة الجمال، والتي كان عادة ما تكون غير خاضعة لمقياس معين، و غير ملونة، وخالية من البشر، والذي أصبح ما يعرف بالعمارة التجريدية. لم يكن هناك مُنشأ لذلك الفن لأنهم كانوا يصنعون شيئًا جديدًا، حيث لا حاجة لفهم السياق، بل ينظرون إلى اللوحة المعدنية الرقيقة التي يصورون عليها. بين يدي هؤلاء المصورين كان هناك فنًا لا يمكن إنكاره.
يوجد عدد لا نهائي من البرامج التي بإمكانها معالجة أي تصميم بسهولة، كما لو كنت تقوم بالتلاعب في صورة على هاتفك الشخصي.
نحن في عالم مختلف تمامًا من التمثيل المعماري. تبدو الصور الأصلية للماضي ، والصور المكونة تمامًا للأشياء الحقيقية ، غريبة نوعًا ما. يوجد عدد لا نهائي من البرامج التي بإمكانها معالجة أي تصميم بسهولة، كما لو كنت تقوم بالتلاعب في صورة على هاتفك الشخصي. والنتيجة كثرة من الصور التي لا يمكن حتى أن تعرف مصدرها الأساسي، والتي تبدو خاطفة للأعين، لدرجة يستحيل معها أن تحدد ما تم بناؤه بالفعل وما لم يتم، حيث يتم معالجتها إعتمادًا على شطحات الخيال ، دون الإهتمام بإظهار الحقيقة. أحيانًا يكون التصوير مُقنعًا لدرجة تجعلك تدخل إلى الموقع الإليكتروني الخاص بالمعماري المصمم لتتأكد إن كان المشروع حقيقيًا أم لا.
ومع ذلك لطالما كانت تلك الرسومات المُغرية للعين، ومعالجتها بالكمبيوتر جزء أساسي من مهنة المعماري، خُذ على سبيل المثال ، باول رودولف ، و فرانك لويد رايت ، وزها حديد. تبدو تصميماتهم حقيقية لدرجة تجعلك تعتقد أنها موجودة بالفعل. هناك تسطيح فائق للحقيقة يؤدي إلى إرتباك جوهري ما بين الصورة والواقع. والذي يبدو متعمدًا تمامًا. كالأفلام الإباحية ، حيث كل ما تراه ما هو إلا محاكاه، بدون شغف أو ألفة حقيقية. أصبحت أعيننا وحدها – بدون أي حواس داعمة أخرى – البوابات لأدمغتنا في تجربة مصطنعة، تتمتع بكل إثارة التقليب عبر مجلة أو كتاب منذ 30 عامًا ، ولكن هذه المرة دون فصل بين الخيال والواقع. ربما يكون هذا كافياً في زمن الجائحة والإنعزال. لكن هل هذا صحيح؟ هل هناك كود أخلاقي ينص على أن الصحافة – أو الهندسة المعمارية ، في حالتنا – يجب أن تكون حول ما تدعي أن تكون عليه؟ في غياب تصنيف يحددها على هذا النحو ، هل العمارة الافتراضية مخادعة بطبيعتها؟ أم أننا جميعًا الآن نتعامل مع التظاهر؟ الكثير مما يتم تقديمه هو تلاعب ساخر بأوهامنا الذاتية. إذا كان المبنى يبدو رائعًا في عالم ثنائي الأبعاد خالٍ من مضمونه كالطقس والمواد والتاريخ وحتى الجاذبية ، فهل هذا ما تمثله الهندسة المعمارية حقًا؟
من المحتمل أن يتطور كل هذا فنصل إلى النقطة التي نرتدي فيها نظارات أو نضع شريحة مدمجة في أدمغتنا “لرؤية” و “تجربة” الهندسة المعمارية. ربما يوجد تشابه هنا مع المواد الإباحية على الإنترنت ، والتي باتت تتسم بنفس غرابة الصور الثابتة للمباني الحقيقية. حيث يمكن للروبوت والجنس في الواقع الافتراضي أن يجعل الفعل الجسدي عبئًا فوضويًا لا داعي له. فما الذي يجعلك تتعامل مع عيوب جسم الإنسان بينما يمكنك التحكم في كل جانب من جوانب ذلك اللقاء المصطنع؟. يدفعنا خطر العالم المادي إلى اللجوء لعمليات المحاكاة بجميع أنواعها ، بما في ذلك الإباحية . لماذا تعرض نفسك لخطر الإصابة بالعدوى؟ لماذا تدفع قلبك للإنكسار؟ لماذا تعاني من آلام الولادة المؤلمة؟ – أو للمهندسين المعماريين ، لماذا تشغل نفسك بهم البناء؟ إذا اختبرنا المتعة في محاكاة العلاقة الحميمة ، فهل هذه المتعه حقيقية؟ هل هي مُتعة كافيه فعلًا؟
على مدى أجيال ، كان تركيز المسابقات، و كليات الهندسة المعمارية، والعديد من العاملين بالمجال، منصبًا على إتقان مهارات العرض. ولكن ما الذي نتقنه بالفعل الآن بعد أن تمكنا من محو الخط الفاصل تمامًا بين ما يتم معالجته بالحاسب وبين ما هو حقيقي ؟
هل ستتطور العمارة لتصل لهذه المعايير ؟ هل يهم أين يقع المبنى؟ وكيف سيتأثر بالوقت؟ هل القدرة على الإحساس بالمساحة المحيطة بنا ، والشعور بموادها ، وتجربة مناخها الحقيقي ، مهمة؟ هل الوجود في الفضاء المادي مهم؟. بالنسبة للكثيرين ، يبدو أنه أقل أهمية بكثير. على مدى أجيال ، كان تركيز المسابقات، و كليات الهندسة المعمارية، والعديد من العاملين بالمجال، منصبًا على إتقان مهارات العرض. ولكن ما الذي نتقنه بالفعل الآن بعد أن تمكنا من محو الخط الفاصل تمامًا بين ما يتم معالجته بالحاسب وبين ما هو حقيقي ؟
للأسف، أصبح العالم يتمحور حول وجهة النظر هذه، بعد أن أصبحنا نُعلِّم، ونصمم، ونعيش معظم حياتنا في إتصال غير مباشر وغير ملموس عبر (ZOOM) و (Snap chat) . المُتعة الناتجة عن التجربة الإفتراضية قد تساهم في تحويل ثقافتنا إلى عالم من المحاكاة القسرية، بدلًا من التفاعل الحقيقي . إن غلبة ذلك التأثير على نطاق التجربة الواسعة في العالم الحقيقي، يوفر الشعور بالتحكم والقوة، تمامًا كما يمكن أن يُشعرك به شكل الطعام المُغري، وصور الملف الشخصي على مواقع المواعدة ، و الأفلام الإباحية على الإنترنت. كل تلك الأمثلة تعتمد على إثارة المشاعر كمقياس فريد للنجاح – وهو ما يشبه الآن الطريقة التي يتم بها تقديم العمارة الافتراضية في القرن الحادي والعشرين. السؤال هنا هل التجربة الإفتراضية شيء جيد؟. إننا نحتاج إلى الطعام كي نعيش، لكن أشكال الطعام المبهرة ترضي العيون فقط. الأطفال هم جوهر الحياة بالنسبة لكثير من البشر، لا يمكن للإباحية إطلاقًا أن توفر هذا المعنى الإنساني. إن المباني توفر المعنى الحقيقي للإحتضان المباشر للإنسانية، بطرق لا يمكن محاكاتها بالتجربة الإفتراضيه. وعلى ما يبدو أن مجتمعنا أمام إحدى الخيارين : إما أن نسعى جاهدين لتحديد قيمنا في مجتمع مادي ملموس يكون كل شخص جزءًا منه بشكل جماعي، وإما أن نقسمه إلى قبائل إلكترونية متصلة بالإنترنت وجماعات متقاربة، كلً يغني نشيده الخاص.
إذا كان بعض المصممين راضين عن العيش والإبداع على الشاشة ، فقد يكون هذا مجرد مستقبل مقبول. لكن المباني الفعلية موجودة لنا لأنها ضرورية. نحن نعيش ونختبر الحياة في الوقت الحقيقي وفي الفضاء الحقيقي. البهجة التي نختبرها من خلال الهندسة المعمارية هنا والآن عميقة وثقافية، وتساهم في تغييرنا كما اكتشفنا في وقت العزلة القسرية. في النهاية يمكن أن يكون التغيير جيدًا. لكن الواقع لا يمكن إنكاره.