الحجر الجيري المستخدم بعمارة القاهرة
مادة الحجر المستجلبة من محاجر القاهرة والتي مثلت العماد الأول فى عمليات التشييد والبناء فى منشآتها لتميزها بخصائص فيزيائية وكيميائية متباينة، وبتعدد ألوانها وصلاحيتها العالية فى أعمال النحت والصقل مما جعلها مادة خصبة جمعت بين الوظيفة الإنشائية والزخرفية
ولذلك ساهمت مادة الحجر بدور كبير فى توجيه العمارة الإسلامية بالقاهرة وساعدت على إيجاد حركة معمارية وعمرانية كبيرة، فالمتتبع لاستخدامها في عمارة القاهرة يشعر بعظمة وبراعة المعمار القاهري ولفهمه الواعي لخصائصها وطرق التعامل معها ، فقد ساعدت على تطور التشكيل المعمارى وخاصة العناصر المعمارية، كما أبرزت مقدرة المهندسون والبناءون والمتخصصون فى ميدان العمارة ، الذين حرصوا على استخدام أجود أنواعها ذات الخواص الطبيعية الجيدة التى تمتاز بصلابة ودقة حبيباتها ، والدليل على ذلك أنها مازالت باقية تقاوم عوامل التلف المختلفة
وقد أطلق المعماريون والحجارون على الأحجار الجيرية صفات وأسماء تتناسب مع نوع الحجر أو حجمه أو مكان مقطعه أو صنعته وتهذيبه أو طريقة بنائه أو الألوان التى يتسم بها ويمكن أن نقسم أنواع هذه الأحجار حسب ما وردت أسماؤها فى وثائق وحجج العصر المملوكى إلى ما يلى :
أنواع الأحجار حسب موضع مقطعها :
تعددت مسميات الحجر الجيري حسب المنطقة أو المحجر التي يجلب منها ، فمثلاً الحجر المجلوب من محاجر طره أطلق عليه الحجر الطراوى أو البلاط الطراوى، فقد ورد بهذه الصفة بوثيقة الأمير قراقجا الحسنى عند معرض حديثها عن مدرسته بدرب الجماميز فتذكر ” … ومفروش أرض الإيوان البحري بالبلاط الطراوى … ” كذلك عرف الحجر المجلوب من محاجر المعصرة جنوب القاهرة بالحجر أو البلاط المعصرانى، وحجر حلوانى نسبة إلى محاجر حلوان، وأحيانًا يرد حجر قرافى ربما يكون هذا الحجر مستخرجًا من موضع بالقرب من القرافة، وهناك حجر هيصم نسبة إلى محاجر الهيصم شمال شرق محاجر البساتين، والحجر المطبق نسبة إلى محاجر المطبق الواقعة جنوب غرب عين الصيرة، وهى كلها أماكن مقاطع الأحجار بالقاهرة .
ـ أنواع الأحجار الجيرية حسب حجمها
قسمت الأحجار الجيرية التي استعملها المعمار إلى أنواع تبعًا لحجمها، فمثلاً الأحجار ذات الأبعاد والأحجام الكبيرة الضخمة تسمى أحجار آلة لاستخدام الآلة كالعجلات والزحافات الخشبية في نقلها، ويُطلق عليها مجازًا أيضًا أحجار عجالية أو حجر عجالى حيث تُنقل وتجر وتسحب بواسطة العجول والثيران، فيذكر البغدادى أن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين عندما أراد هدم الأهرام ذو الأحجار الضخمة، كانت تقطع وتسحب أحجارها على العجل.
واستخدمت الأحجار العجالية أو أحجار الآلة على سبيل المثال لا الحصر في عمارة القاهرة في قصر الأمير بكتمر الساقى واسطبله المشيد على بركة الفيل اتجاه الكبش سنة 717 هـ / 1317م ، فيذكره المقريزي أنه بُنى على هيئة قل ما رأت الأعين مثلها وكانت عجول السلطان تحمل الحجارة لبنائه، واستعملت في عمائر الناصر محمد فنشاهدها بجامعة بالقلعة في الحوائط الخارجية، وفى قصر الأمير قوصون يشبك بميدان القلعة، وفي قصر الأمير طاز بالسيوفية، وفى مدرسة برقوق بشارع المعز، فيذكر القلقشندى المدرسة اعتمد في بناؤها على الصخور العظيمة التي تحمل على العَجل الخشب، ويذكر أن المؤيد شيخ جمع الحجارين وأمرهم أن يقطعوا أحجارًا عجالية من موضع بالقرب من دار الضيافة بالقلعة.
ـ أنواع الأحجار حسب صفاتها :
أطلقت الحجج والوثائق المملوكية على الحجر الجيري المستخدم في عمارة القاهرة بعض الصفات التي تتناسب مع مميزات الحجر، منها الحجر المُطبق، وهو نوع من الحجر المهذب الذى أستعمل في بناء كثير من المداخل والأبواب واعتابها بالعمائر المملوكية ذات الشأن، منها على سبيل المثال استخدمه المعمار في العتب العلوى لمدخل لمدرسة صرغتمش، وكذلك أبوابها الداخلية فتذكر وثيقة وقفه عندما تحدثت من أبواب المدرسة ” … ويشتمل ذلك جميعه على بابين أحدهما كبير مربع بعتبة سفلى صوانًا وعليًا من الحجر المطبق…” كما تذكر :”… والباب المذكور… بكل من جانبيه منطقة بالحجر المطبق …”.
كما أطلقت الوثائق على نوع من الحجر الجيري أسم ” الحجر المأ أو حجر مأ” ، وربما سمى بذلك لصفائه أو لبياض لونه ، واستخدم هذا النوع في العديد من المنشآت المملوكية ففى مدرسة صرغتمش تذكر وثيقة وقفه : ” … بابين أحدهما بعتبة سفلى صوانًا وعليا من الحجر المطبق يعلوها صدر بحجر مأ … ” كما استعمل بسلم وأعتاب خانقاة برسباى بالقـرافة فتذكر وثيقة وقفه : ” … بمسطبة ذي وجهيـن بسلمين حجر مأ … يكتنفه مسطبتان بعتبة سفلى صوانًا وعليًا حجر مأ … “، واستخدم باعتاب مدرسة قراقجا الحسـنى فـتذكر الوثيقة : “… سلم … ذا وجهين بعتبة سفلى صوانًا وعليًا حجر مآ محشى بالرخام … ” وتذكر : ” … محراب يكتنفه عمـودان رخامًا بطـره حجـر مأ … ” “… بابان أحدهما بعتبة سفلى كدانا وعليًا حجـر مأ … “.
وبمدرسة القاضي يحيى زين الدين بالأزهر استخدم حجر المآ فى واجهاتها وأعتابها فتذكر وثيقة وقفه الواجهة الثانية فى الحد القبلى فأنها مبنية بحجر المآ والحجر الفص النحيت الأحمر … ” ” … وواجهة مبنية بالحجر الفـص النحيت وحجر المآ … ” ، وبخانقاة السلطان اينال بالقرافة استخدم حجر المآ بواجهاتها فتذكر وثيقة وقفه “… واجهه دايرة بجهاته الأربعة ومبنية بالحجر الفص النحيت أحدهما بالحجر المشهر بها حجر مآ … “، وتذكر وثيقة وقف الغورى امتلاكه لمبنى بخط المشهد الحسينى يشتمل على واجهه بعضها مبنى بحجر المآ … ” .
ومن أنواع الأحجار الجيرية حسب صفاتها أحجار “الهيصم “، وهى أحجار شديدة الصلابة تقام الاحتكاك ، لذا تعتبر من أجود أنواع الأحجار ، ومن ثَّم تستعمل بكثرة في عمل درج السلالم والأحواض المائية ، واستخدمت بكثرة فى عمائر السلطان قايتباى ، فتذكر وثيقة وقفه شباك سبيله بالمقطم بجلسته : ” … صحن حجر هيصم أُعد لاستقرار الماء العذب … “، كم استخدمت بمواضع متعددة بمنشآت السلطان الغورى منها مدرسته بالغورية ، فتذكر وثيقة وقفه احتوائها على : ” … سلمان حجرًا هيصميًا … ” ، كما استخدم كبلاطات بعمارته ، فتذكر الوثيقة : ” … سلم مبنى بالحجر الأحمر يتوصل منه إلى بسطة مبلطة بالهيصم … ” و ” … باب كبير يدخل منه لدركاه مبلطة بالهيصم … ” .
أنواع الأحجار الجيرية حسب تهذيبها :
الأحجار المنحوتة
هى أهم أنواع الأحجار حسب تهذيبها ، وهذه الأحجار تقطع على هيئة كتل ذات أحجام صغيرة أو متوسطة أطلقت عليها الوثائق اسم الحجر الفص النحيت وكانت تأخذ الشكل المربع أو المستطيل حسب الرسومات التي يحددها المعماريون، وسبب تسميته بهذا الاسم لأن الحجارين يقومون بتهذيبه وتنظيمه ونحت جوانبه الأربعة نحتًا منتظمًا حتى يجعلوه أملسًا مصقولاً كفصوص الجواهر ، وهذا النوع لا يزيد حجمه عن 30 سم × 70 سم، ولذلك يمكن أن نحسب ارتفاع أي مبنى بحساب عدد المداميك الحجرية المكونة له، ومبان الحجر المنحوت يجب أن تكون منحوتة جيدًا أسطحها مستوية وأوجهها الظاهرة كاملة التشطيب، وكانت المداميك المؤلفة منه تتكون في الغالب من لون أو لونين أبيض وأحمر أو أصفر.
اما فيما يخص الحجر الكدان هذا النوع كثير الورود فى وثائق وحجج الوقف يرد بلفظة تبين مكان مقطعه حيث تسميه بالحجر الفص النحيت الكدان، وحددت وثيقة قايتباى مواطن استخراج الحجر الكدان ، فتذكر الوثيقة سبيله بالمقطم : “… قريبًا من مقطع الحجر الكدان… ” وأحجار هذا المحجر عبارة عن حجر حجرى صلب رمادى حبيبى ، ويستخرج منه أحجار الرحى للطواحين كما تستخدم أحجاره فى عمل العقود والأسوار ، ويستخرج منه الحجر الدستور والحجر العجالى الكبير
الحجر المُسنم أو المبوص
من أنواع الأحجار الجيرية حسب تهذيبها، وهو حجر مستوى من الجانبين أما الواجهة فهي تشبه سنم الجمل، ولذلك أطلق عليه مسنم ، وهى أحجار تشذب وتسوى حدودها الخارجية ويترك وسطها غشيمًا، ومن خلال الشواهد الأثرية الباقية نلاحظ كثرة استخدامه في العصر الأيوبي خاصة بأسوار القاهرة والقلعة
أحجار الدبش
هي الأحجار التي لا تصلح للنحت، وتستخرج بكثرة من المحاجر ، وتكون عادة غير منتظمة الأوجه والأشكال، وأطلق عليها اسم دبش، وعلى الحائط المبنى بها حائط مدبش
الحجر البطيح والمكسور
من أنواع الأحجار الجيرية أيضًا حسب تهذيبها وصقلها ، وتسمى بطيحًا متى كانت مُصلحة تصليحًا خفيفًا، أما الحجر المكسور فهو قطع من الحجارة لها قطع معين وورد استخدامه بوثائق الوقف المملوكية فتذكر: ” … سلم حجر مكسور … ” أو ” … واجهة حجر مكسور “
أنواع الحجر الجيري حسب لونها :
تتميز صخور الحجر الجيري بمحاجر القاهرة ، بتعدد ألوانها المختلفة منها الأبيض الناصع البياض والأصفر والأحمر، واستفاد المعماريون بالقاهرة من هذه الخواص الطبيعية للأحجار الجيرية الملونة واستخدموها كتعبير معماري لإحياء منشآتهم وتزيينها، بحيث يلفت النظر ويجذب الانتباه إليها، وهو ما انتبه إليه المعمار القاهري في العصر المملوكي، فاستخدمت هذه الأحجار بألوانها، إما منفردة بمعنى أن يبنى العنصر المعماري أو المبنى بحجر جيري ذات لون واحد ومن أمثلة ذلك مثلاً الحجر الجيري الأبيض
أما إذا استخدم الحجر بلون غير الأبيض فكانت الوثائق تذكره بلونه ، كالحجر الجيري الأحمر مثلاً ، فقد ورد بكثير من وثائق العصر المملوكي استخدامه في عمارة منشآتهم ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، ورد بوثيقة الأمير قراقجا الحسنى استخدامه كبلاط في مدرسته بدرب الجماميز فتذكر : “… دهليز مفروش أرضه بالبلاط الأحمر
وجمع المعماريون أيضًا بين أكثر من لون من ألوان الحجر الجيرى المميزة له في منشآت القاهرة وخاصة بالواجهات وبعض العناصر المعمارية كالعقود والمآذن والمداخل ، كما حرص على استخدام الأحجار الملونة بطبيعتها ليضمن ثبات اللون ومقاومته للكشط ، وإن تعذر الحصول على الأحجار ذات اللون الطبيعي كان يضطر إلى تبييضها بالطلاءات الملونة صناعيًا وخاصة اللون الأحمر
واستخدام الأحجار بألوانها الطبيعية أو التي تحاكى الطبيعة في عمارة القاهرة أتاح مجالاً واسعًا لإظهار القيم التصميمية بتعدد الدرجات اللونية ، وكان التباين بين اللونين يظهر على هيئة مداميك متعاقبة فى صفوف منتظمة بالتبادل من اللونين الأحمر المائل للبنى الداكن أو الأصفر ، وهذه النوعية من الأحجار كانت تهذب وتصقل على هيئة فصوص مربعة أو مستطيلة على هيئة الحجر النحيت ، ولذلك عرفت وثائقيًا ” بالحجر الفص النحيت المشهر بالأبيض والأحمر ” .
هذه إطلالة على انواع الحجر الجيري المستحدم في عمائر القاهرة ، وللمزيد من الدراسة عن الحجر الجيري ومحاجره بالقاهرة واستعمالاته واشكاله وألوانه ودوره في تطور هندسة البناء